يقول المصنف: [ففيها كمال التوحيد، وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه] وهذا الكلام مأخوذ بتصرف من كلام ابن القيم رحمه الله في المدارج، فإبراهيم اتخذه الله تبارك وتعالى خليلاً، وبلغ به الكبر عتياً ولم يولد له ولد، فسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب له ولداً صالحاً، وكانت لديه هاجر جارية، فرزق منها إسماعيل، فلما جاء إسماعيل أحبه أبوه حباً شديداً، وهناك ما يستوجب ويستدعي هذا الحب، وهو: كبر السن، ومجيئه إليه بعد شوق، وهذه المحبة محبة طبيعية ليست محرمة، ولا بأس بها لذاتها.
وقد كان وصف الله إبراهيم عليه السلام بسلامة قلبه فقال: ((إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))[الصافات:84] أي: سليم من الشرك، ومن الموالاة والمعاداة والمحبة لغير الله تعالى، فلم يقدم حُبَّ أحد على حبّ الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك الامتحان لإبراهيم الخليل عليه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل.
وهنا ننبه إلى أن هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو أن الذبيح إسماعيل عليه والسلام، لا كما يزعم اليهود -وأخطأ من تبعهم أيضاً من المفسرين- أن الذبيح إسحاق عليه السلام.
فإسماعيل هو الذي بقي مع هاجر في الصحراء حيث لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى، تركهم إبراهيم عليه السلام لله سبحانه وتعالى، فلم يضيعهم الله، بل فجَّر بئر زمزم تحت قدمي إسماعيل عليه الصلاة والسلام، فهو ابنه البكر.
وقوله: [فغار الخليل على قلب خليله] هل يوصف الله تبارك وتعالى بالغيرة؟ الجواب: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من غيرة سعد ؟ لله أغير..} وفي الحديث الصحيح عن أبي مسعود قال: {لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه الثناء من الله ولذلك أثنى على نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ولهذا أرسل مبشرين ومنذرين} .. (وغيرة الله سبحانه وتعالى أن تؤتى محارمه}.
فالمقصود أن الله تعالى يُحَبُّ لذاته، أي ليس لسبب آخر، وهو مستحق لذلك سبحانه وتعالى، أما غيره فلابد من سبب معين لكي نحبه؛ لأنه لم يستكمل أن يكون محبوباً لذاته.
قال: [فامتحنه بذبحه ليظهر سِرّ الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه وعزم على فعله، ظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته؛ نسخ الله ذلك عنه] وفي هذا يتبين لنا أن ما يقدمه الإنسان من قربان وذبح للأضاحي وإراقة للدماء ليس مطلوباً لذاته، بل المقصود منه العبودية والإذعان والانقياد، والتقوى من القلب لهذا الخالق العظيم سبحانه وتعالى، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام استكمل هذا الشرط عندما تلَّ ابنه للجبين -يعني: أضجعه- وأخذ السكين وحدها، ووضعها على رقبته وأخذ يحز، وبلغ به الأمر مبلغه من فعل الأسباب المادية التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الدنيا، ولهذا قال له ربه تعالى: ((قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا))[الصافات:105] لكن لم يرد الله أن يحدث المسبب وتقطع السكين؛ لأن المقصود -كما قلنا- وقوع التعبد وتمحض القلب لله سبحانه وتعالى، حتى يصبح الخليل خليلاً حقاً لا يشركه فيه أحد، فصدق الخليل رؤيا ربه سبحانه وتعالى، ولذلك بلغ تلك المنزلة، وثبتت له الخلة، أما الابن فقال الله عنه: ((وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ))[الصافات:107].
يقول: [فلما استسلم لأمر ربه] كما قال تعالى: ((فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ))[الصافات:103] [وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله]: وهو الله سبحانه وتعالى، [على محبته] أي: على محبة الابن، [نسخ الله ذلك عنه وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم، وتوطين النفس على ما أمر، فلما حصلت هذه المصلحة، عاد الذبح نفسه مفسدة فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنةً في أتباعه إلى يوم القيامة] وأخص الأمم باتباعه هم أتباعه ثم نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته، كما قال الله تعالى: ((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ))[آل عمران:68] يعني أولى الناس بإبراهيم: هم الذين وقفوا مع إبراهيم عليه السلام في الموقف العظيم، وقالوا لقومهم: ((إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ))[الممتحنة:4]، فالذين وقفوا مع الخليل هذا الموقف هم أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، وممن بعدهم (وهذا النبي) وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، (والذين آمنوا): وهم المسلمون.